التخطي إلى المحتوى

67fbc28cae

»»

ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لأدباء ومواهب أرض الكنانة..وفي هذه السطور تنشر بوابة الجمهورية والمساء رؤية نقدية لرواية الناقدة الأديبة عبير سليمان عبدالمالك لرواية “مقامرة على شرف الليدي ميتسي” للأديب أحمد المرسي..

»»

قراءة في رواية “مقامرة على شرف الليدي ميتسي لأحمد المرسي

بقلم عبير سليمان عبدالمالك

( كاتبة وناقدة وأدبية)

الرواية جذبتني بأحداثها وتفاصيل شخصياتها وصراعاتهم الداخلية فانتهيت منها في وقت قياسي رغم الجو الحار وإيقاع اليوم السريع، وبعد انتهائي منها قلت: عرفت لماذا تستحق الرواية الوصول للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، والفوز أيضاً.

رغم طابعها التاريخي إلا أنها توصف بالاجتماعية أولاً قبل التاريخية، فهي تأخذنا في رحلة عبر الزمان إلى العشرينيات من القرن العشرين، وتصف لنا شكل الحياة في ذلك الزمان البعيد، حيث الصحراء التي عمرها البارون إمبان وأطلق عليها هليوبوليس، زينها بقصره وبالطرق التي تصل بينه وبين العمران في القاهرة القديمة ومعالمها، وأنشأ فيها لونا بارك وحلبة سباق الخيول ، وخلق مدينة صغيرة داخل المدينة الكبيرة بأحيائها الكبيرة العريقة.
تبدأ الأحداث باكتشاف وفاة فوزان الطحاوي، لتبدأ بعدها الرحلة بأسلوب سرد الفلاش باك، لنجد أنفسنا أمام لوحة فنية كبيرة بداخلها عدة أماكن وشخصيات رئيسية وأخرى ثانوية ولكنها قوية ومؤثرة في الأحداث، يصحبنا معه الكاتب إلى حي الخليفة ونرى في البداية مشاهد سينمائية لحياة الصاغ السابق سليم حقي وما الذي جاء به إلى حي شعبي فقير، في حارة ضيقة، ولا نغفل هنا عن الجانب الفني الذي أتقن رسمه بريشة فنان يهتم بالتفاصيل، فأمامنا المشربيات تطل منها السيدات يتأملن تبدل الحال بالصاغ سليم وزوجته، الذي يرهن قطعاً غالية على قلبه من أثاث منزله وديكوراته، إذن فنحن من البداية نعلم دافع البطل وراء مقامراته، إنه دافع مختلط بمشاعر متضاربة، حبه لزوجته ورغبته في استعادة هيبته أمامها وخوفه من ندمها على اختياره زوجاً فيفقدها للأبد، ودافع آخر وهو تحقيق المكسب دون جهد كبير وتعويض فقده لوظيفته بلعبة يعلم جيداً أن احتمال الخسارة فيها أكبر من احتمال الفوز، لكنه الأمل والحلم يتلاعبان بعقله ويخايلانه، وهنا يجد القاريء نفسه حائراً أيغضب من الصاغ سليم أم يشفق عليه ويلتمس له الأعذار، وما حيلة رجل مثله وجد نفسه فجأة يدفع ثمن لحظة حماس وشعور وطني جارف، يفقد بعدها سلطته ومكانته الاجتماعية الرفيعة، وماذا يمكن لمن مثله أن يفعل بعدما نزعت منه هالته وأمواله، يبحث عن وسيلة للتعويض فإذا به يسقط فريسة ألاعيب الحظ والقدر.
ثاني الشخصيات التي نلتقيها مرعي المصري السمسار الذي يلعب بالبيضة والحجر، يجيد العزف على أوتار نقاط ضعف زبائنه، فيعمل لهم من البحر طحينة، يصور لهم جمال اللعبة وحلاوة المكسب المنتظر ليفاجأ الضحية بالخسارة المدوية تهبط على رأسه، فتزلزل كيانه، وهو لا يتوانى عن بذل كل جهد ممكن مع زبائنه من أجل إقناعهم بصدق نواياه، وبحرفيته ومهارته في اختيار خيل السباق وتمكنه من إدارة اللعبة لصالحهم ، فهل من المنطقي اللعب على خيل خاسر؟
ما يجعلنا نرى اللوحة أمامنا حية وتضج بالحركة والحيوية هو الوصف الدقيق لحالة الشخصيات ، ملابسهم، أدواتهم، الأتومبيل الخاص بسليم حقي ، ملابس زوجته عايدة، القبعات، القفازات ، قصر الليدي ميتسي نعوم “أو ميتسي خشاب”، الخيل وأسليب العناية بها،بعض الكلمات المتداولة في تلك الحقبة الزمنية مثل الشفاخانة التي يخصون فيها الخيول، الأجزاخانه التي يشتري منها سليم دواء زوجته، القراقول”الكراكون” الكديش وغيرها وأماكن مثل جزيرة سعود في الشرقية والتي يسودها عرب الطحاوية ودور السينما التي تعرض أفلاماً صامتة.
ولا يخفى علينا الجهد المبذول من الكاتب في دراسة اللهجات والفوارق بين لهجة أهل الريف ولهجة الحضر أو أهل المدن، كما أنه أبدع في اللغة اللتي أتت على لسان مرعي المصري وتشبيهاته العجيبة ” مصر دي دنيا كبيرة بتبرق من بره زي البلور، ومن جوه عفشة زي المواحيل” ، “خيل بتجري ونفوس جعانة”.

كما أن الكاتب برع في وصف مشاعر أبطاله، سليم الذي يرى نفسه إنسانا نبيلاً ويقاوم السقوط فينجح أحياناً ولكنه يفشل في أحيان أخرى كثيرة خاصة كما رأينا في مشاهد صراعاته مع الخواجة الذي يستدين منه بالفايظ، ومشاعر حبه لزوجته والذنب تجاهها، حتى الطفل الصغير فوزان الطحاوي، وشعوره بالغربة في القاهرة وذهوله ودهشته من كل ما رآه، خوفه واندفاعه اللذان دفعاه لأن يسلك سلوك رجل يخشى أن يُغدر به.
تتميز الرواية بالانتقال السلس من مشهد لمشهد، ومن حكاية لأخرى فلا يتركك الكاتب أبداً للتشتيت أو فقد التركيز فهو يمسك بأدوات الحكي جيداً ويجيد الربط بين المواقف والأحداث فلا يترهل منه خيط الحكي أبداً، كما نجح في نسج العقدة بتراكم وتشابك المواقف وتقاطع مصير الأربع شخصيات الرئيسية ومعهم الشخصية الثانوية “خليل بك” الذي يمسك بخيوط اللعبة ويتحكم فيها وفي قواعد الفوز والخسارة، رغم أنه لا يظهر إلا في ثلاثة مشاهد أو أربعة، لكنه يعبر بصدق عن فنون هذه اللعبة الخبيثة التي يشتبك فيها الأربعة، يجتهدون في كل جولة من جولاتها ألا يقعوا في فخ الخسارة وبالتالي يفقدون آدميتهم وكرامتهم، ويظل هو مسيطراً يشاهدهم وهم يلعبون أمامه وهو يضحك ويسخر منهم.
من الشخصيات الثانوية المثيرة أيضاً شخصية برجس الطحاوي عم الطفل فوزان ، والخادمة نبوية والخواجة آشود وحجاج صاحب الكارو.
من صولة لصولة في حلبة السباق، ومن حكاية لأخرى، وجدتني أتفاعل بشدة مع مشاعر الليدي ميتسي وأشعر تجاهها بالشفقة وهي تتمنى أن يقع سليم في حبها، وهنا تتحول مشاعر القاريء تجاه سليم إلى الاحترام، فرغم سقطاته إلا أنه يقاوم شهوته ويتغلب عليها، ورغم إغراء ميتسي له إلا أنه يختار أن يسمو بنفسه عن السقوط في الغواية ، المدهش أن الرهان الذي يكسبه سليم هو رهان الحياة مقابل لعبته على الموت ،وميتسي لا نجد لديها دافعاً لدخول هذه اللعبة الخبيثة إلا رغبتها في استعادة ابنها ديفني، تلهث وراء المراهنة في السباق مدفوعة وراء حلمها المستحيل، هي تملك من متع الحياة كل شيء بعدما كانت فقيرة ، لكنها تشعر بفقدان الرغبة في أية متعة ، وتتطلع للفوز على أمل أن يعيد لها الفوز ابنها الذي كان يعشق الخيل!
لقد لخص من قبل دوستويفسكي عبث التعلق بالفوز في لعبة القمار في روايته المقامر ، نحن هنا أمام لعبة مختلفة لكنها أيضاً مثل القمار لكنه على الخيول ، خسارات تتبعها خسارات ولا يأتي الحظ إلا بالصدفة وفي مرة واحدة من ضمن عشرات المرات، مثلما رأينا معه حال “أليكسي” والعجوز “بابولنكا” ، ومن أقوال البطل أليكسي ” إن اللذة مفيدة دائماً والسلطة المطلقة التي لا حدود لها نوع من المتعة ولو كانت سلطة على ذبابة، الإنسان ظالم بطبيعته، يحب التعذيب وأنت يا باولين تحبين هذا أكثر مما تحبين أيَّ شيء آخر”.
لقد أحيا أحمد المرسي من جديد لعبة القمار وعبثيتها في رواية تحمل روحاً مصرية خالصة ، وتتجول بنا في شوارع القاهرة وفي صحراء مصر وريفها وأدخلنا معه أيضاً داخل اسطبلات خيولها، ورأينا معه القاهرة بسحرها ودلالها عبر قصورها وحدائقها ومدينة ملاهيها الشهيرة ، ورأيناها أيضاً بفوضاها ومعاركها وخماراتها.
إن أجمل ما في الرواية هو سرد أحداثها من خلال شخصية فوزان الطحاوي الذي أحببته طفلاً كبيراً ، ومن أجمل المشاهد تلك التي جمعته بعايدة ، السيدة النبيلة التي تعاني من المرض لكن معاناة النبلاء صامتة ودون صخب، أحياناً يجمع البشر وحدة المصائر، فالطفل فوزان يحن إلى أمه فيجد لديها التعويض، وهي أيضاً تلمس فيه تعويضاً عن الأمومة التي حرمت منها، فوزان منذ طفولته يعاني من عدة ابتلاءات فقد الأب وطمع العم وشراهته للمال، كما أن الحياة تظلمه إذ يعيش طوال عمره متهماً بسرقة أراضي أحد كبار القرية ، فيأتي موته ليظهر براءته، فوزان هنا نموذج للشخصية الحرة فقد فضل أن يترك القاهرة ببريقها الخادع ويعود لقريته فقيراً، ليعيش من عمل يده، ولن تملك إلا الإعجاب به فهو ينتقل من مكان لآخر بحرية دون خوف يشيع المحبة وينشر البهجة بحكاياته الطريفة، ربما ما رآه في القاهرة كان كافياً ليقرر أن يقضي بقية حياته كما يحب ويختار، بعدما أمضى أياماً عاش فيها تجارب تنوعت ما بين المغامرة والألم ولحظات سعادة خاطفة مرت كالبرق، هذه التجارب وجد فيها كفايته ما تبقى من عمره، وجعلته يفضل الحرية والكرامة على سائر متع الحياة وزينتها وبهرجها الزائف.

إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
“جميع الحقوق محفوظة لأصحابها”

المصدر :” almessa

ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة موقع بالبلدي ولا يعبر عن وجهة نظر المربع وإنما تم نقله بمحتواه كما هو من موقع بالبلدي ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *